بين الردود العلمية والمواجهات الصفرية : قراءة في الخلاف بين التيارين السلفيين ؛ الحركي والدعوي في شرق إفريقيا

تقدير موقف  16 أغسطس 2025

الأستاذ / أنور أحمد ميو

كاتب وأكاديمي صومالي

مقدمة

شهدت الساحة الدعوية في شرق إفريقيا مؤخرًا سجالًا واسعًا بين اثنين من أبرز مكونات التيار السلفي: التيار السلفي الحركي، الذي يمثله الشيخ محمد عبدي أمل، المقرب من جماعة الاعتصام، والتيار السلفي الدعوي (المدخلي)، الذي بدأ في الآونة الأخيرة بالتوسع في مناطق تعد تقليديا من معاقل نفوذ جماعة الاعتصام. 

بدأ ظهور التيار السلفي الحركي في منطقة شرق إفريقيا في أوائل ثمانينيات القرن الماضي، عندما تأسست الجماعة الإسلامية التي انشقت عن حركة الأهل (القطبية)، والتي كانت تروج لأفكار تكفير المجتمعات. اقتنع معظم أعضاء الجماعة الإسلامية بالفكر السلفي، ثم اتحدت مع وحدة الشباب الإسلامي في شمال الصومال تحت اسم “الاتحاد الإسلامي”، ليصبح بذلك أكبر تجمع سلفي وأكثره نفوذا في الصومال. بعد انهيار الحكومة المركزية وانخراط الاتحاد في الحروب الأهلية كحركة تسعى لتأسيس إمارة، شهدت الجماعة انشقاقات واسعة، وتحول اسم الحركة إلى “جماعة الاعتصام”.

أما التيار المدخلي، فقد بدأ ظهوره في الصومال في أوائل تسعينيات القرن الماضي، وذلك إثر انتشار فكره في المدينة المنورة. وقد عاد إلى الصومال بعض الأعضاء السابقين في حركة الاتحاد، ممن انشقوا عنها بعد تخرجهم في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، ليبدؤوا بنشر هذا التوجه. ومنذ ذلك الحين، ظهرت ردود فعل قوية، وبرز تنافس واضخ بين التيارين.

أما الجدل المتجدد بين التيارين، فقد كانت شرارته فتوى أطلقها الشيخ أُمَل ضد ندوة نظمها مشايخ من التيار “المدخلي” في نيروبي، المدينة التي تُعد مركزًا تقليديًا لنشاط جماعة الاعتصام. وقد توقع الشيخ أُمَل، بل حذّر، من أن التيار “المدخلي” لن يتقبل نقده، وسيرد بانفعالات حادة، ملوّحا بكشف الأخطاء المنهجية لهذا التيار بالتفصيل إذا اضطر إلى ذلك.

أعقبت تلك الفتوى سلسلة طويلة من الردود والمحاضرات المتبادلة بين الطرفين، تحوّل فيها النقاش تدريجيًا من حوار علمي إلى مزيج من التصعيد الشخصي والتوتر المنهجي، وقد بات هذا التصعيد يهدد الخطاب السلفي بأكمله، بما يحمله من مضامين دعوية وفقهية في المنطقة، ويعمق الانقسام داخل التيارات السلفية نفسها، في سياق لا يفتقر أصلا إلى انقسامات والتشظيات المجتمعية والسياسية.

تطورات الحدث

1- عقد عدد من مشايخ التيار المدخلي دورةعلمية في العاصمة الكينية نيروبي، تناولوا خلالها جملة من المسائل الشرعية، من بينها موفقهم من الجماعات الإسلامية، والتي وصفوها بأنها مخالفة للشريعة. أعقبت ذلك فتوى للشيخ محمد عبدي أمل، اتنقد فيها التيار المدخلي، واصفا إياه بـ”حزب مكافحة الأحزاب” ومتهما  إياه بالسعي إلى تمزيق الأمة. كما أشار إلى أن أتباع هذا التيار لن يتقبلوا النقد، وسيسارعون إلى الصياح والثورة، متوعدا بتفصيل أخطائهم المنهجية إذا دعت الحاجة إلى ذلك.

2 – علّق الشيخ عبدالقادر عكاشة بأن الشيخ أمل متململ من انعقاد الندوة العلمية في نيروبي، واعتبر أن ردّ فعله نابع من ضيقه بامتداد “السلفية” (التيار المدخلي) داخل كينيا.

3 – بدأ الشيخ أُمَل سلسلة محاضرات بعنوان  “بين منهج السلف والحزب السلفي” امتدت لتسع حلقات، خصص بعدها حلقة عاشرة للرد على الشيخ عبد القادر عكاشة.

4 – وردّ الشيخ عكاشة بسلسلة مضادة بعنوان “الرد المفصل على تعقيب الشيخ أُمَل”، تناول فيها المحاضرة العاشرة بالتفصيل، مع مناقشة مختطفات من باقي السلسلة.

5 – ولم يتأخر الشيخ أُمَل في الرد، فأطلق بدوره سلسلة جديدة بعنوان الجواب المؤصّل في أغاليط الرد المفصل. واصل نقده لمواقف التيار المدخلي ودفاعه عن منهجه.

6 – تتابعت الردود من الطرف “المدخلي”، لاسيما من الشيخ عبد الله البربراوي في هرجيسا، الأمر الذي وسّع من دائرة الخلاف ورفع من وتيرته في المنطقة.

ملاحظات عامة على مجريات النقاش

  • تدرج السجال بين الطرفين من إطار علمي رصين إلى منحدر من الجدال الشخصي والتجريح.
  • وظهرت في بعض الردود محاولات للإسقاط والتشويه، بدلا من تقديم نقد علمي بنّاء.
  • كما تبادل الطرفان الاتهامات والتوصيفات الحادة، في تراجع ملحوظ في أدب الخلاف، وغياب الأسلوب الشرعي المتّزن في بحث المسائل المختلف فيها.
  • وأظهر السجال ضحالة فهم الطرفين لقيمة الدولة ودورها المحوري في حياة المجتمعات المعاصرة، في حين أنهما في طليعة المستفيدين من خدمات الدولة، سواء على مستوى الأمن والاستقرار أو التسهيلات التي مكّنتهم من إطلاق مشروعاتهم الدعوية والتنقل بحرية داخل البلاد وخارجها.

الأسباب الكامنة وراء الخلاف

  • الخلفية التاريخية: تعود جذور الخلاف بين التيارين إلى خصومات قديمة وتجارب سابقة لم تُعالَج جذريًا، وتحديدا منذ أوائل تسعينيات القرن الماضي، حين نجح التيار المدخلي في السيطرة على الساحة الدعوية السلفية في العاصمة مقديشو وجنوب الصومال.
  • الصراع على النفوذ الدعوي: يرى التيار الحركي بأن التيار المدخلي آخذ في التوسع داخل مجالات نفوذه التقليدية، مما يثير التوتر والتنافس بين الطرفين.
  • الاختلاف المنهجي: يتمحور الخلاف حول رؤيتين مختلفتين للدعوة والعمل، إذ يتبنى التيار الحركي خطابًا سلفيًا يجمع بين الدعوة والمشاركة المجتمعية والسياسية، في حين يركز التيار المدخلي على الدعوة المحضة، والالتزام بالسلطة الحاكمة، مع توجيه نقد حاد للجماعات الإسلامية الأخرى، وذلك تفاديًا لما يصفه بالتشظي الذي تعاني منه المجتمعات والدول الإسلامية.

      طبيعة الردود

  • تميزت بعض المحاضرات بجَهد علمي معتبر، لاسيما في بدايات سلسلة الشيخ أُمَل، حيث اتسمت بالاتزان والإعداد الجيد من الناحية العلمية. ولو أن الشيخ قَصَد بها أن تكون دروسًا عامة أو حوَّلها إلى كتاب منشور، لكان في ذلك نفع كبير للطلبة والباحثين.
  • إلا أن خطاب الشيخ أمل لم يخل لاحقًا من بعض الانحراف، إذ بدأ يميل إلى الانتصار للنفس، مع إفراط في التوصيف السلبي للطرف الآخر.
  • وقد استفاد التيار المدخلي من بعض مظاهر الحدة والانفعال في خطاب الشيخ أُمَل، مما أضعف من أثر دعوته لدى الجمهور، رغم ما يتمتع به من قوة علمية، وفصاحة في اللهجة.

     خلل منهجي

  • أدى الانشغال المفرط بالردود والردود المضادة إلى خروج النقاش من إطار النقد المنهجي البنّا إلى دائرة الخصومة الفكرية الصفرية، حيث يغيب هدف الإصلاح، ليحل محله منطق لإقصاء والإلغاء.
  • ومثل هذا الانشغال بالردود المتبادلة غالبًا ما ينزلق إلى مراعاة حظوظ النفس، ويقود إلى التعصّب، وإسقاط المخالف، وتمزيق النسيج المجتمعي، إضافة إلى صرف الانتباه عن القضايا الكبرى التي تهم المجتمع، والانشغال بقضايا هامشية  تعمّق الانقسام.
  • ويعكس هذا الأسلوب غياب الرؤية المقاصدية في إدارة الخلاف، مما يُفقد النقاش قيمته العلمية والدعوية، ويضعف أثره الإصلاحي.

 اتجاهات الحدث والسيناريوهات المتوقعة

 اتجاه الحدثدرجة الاحتمالالسيناريو المتوقع
1الشد والجذب والاصطفاف بين الدعاة وطلاب العلم.مرتفعاستمرارية التصعيد والخلاف، مما يعمّق الانقسام داخل المجموعات السلفية.
2هدوء شكلي مع بقاء التوتر.متوسطتهدئة نسبية دون معالجة جذرية للأسباب، ما يجعل الخلاف مرشحا للعودة مجددًا.
3مبادرات صلح من علماء يحظون بقبول من الطرفين.متوسطإمكانية تحقيق مصالحة حقيقية ووقف الردود، في حالة توفر الإرادة والتنازلات
4المنافسة على المساجد، والمعاهد الشرعية، والأنشطة الدعوية.متوسطتحول الخلاف إلى صراع ميداني ناعم، ما يؤدي إلى انتاج الخلاف بصيغ جديدة.

الصورة العامة للحدث

ما يجري على الساحة ليس مجرد ردود علمية متبادلة، بل هو صراع دعوي ممتد لأكثر من ثلاثة عقود، تتداخل فيه أبعاد فكرية ونفسية، ويتغذى على التنافس حول النفوذ الدعوي؛ سواء للحفاظ على مكاسب قائمة أو لتحقيق مزيد من التمدد.

الأسلوب الحالي في إدارة هذا الخلاف، من حيث الخطاب والمضمون، يُنذر بتفتيت المشهد السلفي في المنطقة، ويُضعف ثقة الناس في الدعاة والمؤسسات الدينية، فالخطورة لا تكمن في وجود النقد بحد ذاته، بل في الطريقة التي يُمارَس بها والغايات التي يوجَّه نحوها.

النقد الذي يُقصي الآخر، ويشوّه صورته، ويُستخدم كوسيلة للانتصار الشخصي، يفقد مصداقيته ويخرج عن مقاصده الإصلاحية، بل يُسهم في زيادة التوترات، ويُضعف قدرة الدعوة على القيام بدورها في واقع يحتاج إلى التماسك والرؤية الجامعة.

توصيات

  • إيقاف سلاسل الردود الشخصية، والدعوة إلى خطاب علمي تأصيلي يعالج القضايا المنهجية بهدوء واتزان، بعيدًا عن التشنّج والتجريح.
  • الاستفادة من  الحلقات الأولى للشيخ أُمَل، وتحويلها إلى مادة علمية منشورة تُقدّم بلغة علمية موضوعية، دون تعرض لأشخاص أو جهات، بما يُسهم  في إعادة النقاش إلى مساره العلمي الرصين.
  • تشجيع جهود الوساطة من قبل العلماء والدعاة المقبولين لدى الطرفين، للمساهمة في تهدئة الأجواء ورأب الصدع، عبر الحوار البنّاء والمبادرات التصالحية.
  • رفع مستوى الوعي بأدب الخلاف في أوساط الشباب وطلاب العلم، مع التأكيد على أن وجود الخلاف لا يُلغي الاحترام المتبادل، ولا يبرر الإساءة والإقصاء.
  • تعزيز ثقافة التنوع الفكري داخل المجتمع، والتشجيع على توسيع الصدر للمخالفين بالرأي، بما يعزز مناعة المجتمع تجاه الانقسام  والتعصّب .
  • عدم الانشغال بالقضايا الجزئية والداخلية على حساب أولويات المجتمع، مثل الأمن الفكري، والاستقرار، والتعايش السلمي، والإصلاح المجتمعي، والتنمية، وسائر القضايا الكبرى التي تمس حياة المواطنين ومصالحهم.

الخاتمة

 الخلاف بين الشيخ محمد عبدي أُمَل والتيار “المدخلي” لا يمكن فصله عن السياق الأوسع لحالة الاستقطاب الحاد التي تعيشها  أطياف التيار السلفي في العالم الإسلامي. وإن لم  يُدار هذا الخلاف بعقلانية ووعي ومسؤولية، فإنه مرشح لأن يتحوّل إلى أداة لاستنزاف الطاقات الدعوية، ويزيد من أعباء المجتمعات المسلمة التي تعاني أصلا من آثار الانقسام والخصومات بين أبنائها.

إن تجاوز هذه الخلافات لا يمكن أن يتحقق إلا من خلال الوعي، والاتزان، والمرونة، والرجوع إلى مقاصد الشريعة، التي تُقدّم المصلحة العامة، وتغلب روح الوحدة على نوازع الإقصاء. فمثل هذه السجالات، وإن راقت لأنصار كل طرف، فإنها لا تعود بالنفع على عامة المسلمين في هذه المنطقة، بل تعمّق الجراح وتُضعف الصف.

معهد القرن للسلام والتنمية

سفاري أبارتمينتز، كم 5، مقديشو – الصومال

+252858182 / +252614717775 الهاتف:

       البريد الالكتروني:  info@hipadinstitute.org

تحميل المقال من هنا👇

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *